یبدو أن لعبة عض الأصابع ما بین أمریكا وكوریا الشمالیة وصلت لخواتیمها، فقد أعلن وزیر الخارجیة الأمریكی فی لقاء صحفی البارحة وبصراحة تامة قائلا: " نحن لا نسعى لتغییر النظام الكوری الشمالی ولا نسعى لانهیاره، لا نسعى إلى إعادة توحید شبه الجزیرة الكوریة كما أننا لا نبحث عن ذریعة لإرسال جیشنا إلى شمال الخط 38 (الذی یفصل بین الكوریتین) بل كل ما نأمله هو أن نتمكن من إجراء حوار مع النظام الكوری الشمالی مستقبلا" وتابع مخاطبا الكوریین الشمالیین: "نحن لسنا عدوكم، لسنا تهدیدا لكم، لكنكم تشكلون تهدیدا مرفوضا بالنسبة إلینا علینا الرد علیه".
كلام متقدم جدا یأتی بعد أیام من آخر تصعید أمریكی كوری شمالی فی سیاق الأزمة المفتوحة منذ حوالی العام. كلام یُقرأ منه تهدئة وسعی لضبط اللعبة ضمن نطاق یتحمله الأمریكی. خاصة أن المرحلة الماضیة اتسمت بالتصعید الأمریكی والتصعید المقابل من قبل بیونغ یانغ. حیث اعتمدت بیونغ یانغ سیاسة المواجهة والتقدم خطوة إلى الأمام بعد كل تصریح وخطوة أمریكیة.
طبعا هذه اللهجة الأمریكیة الجدیدة لم تأتی من فراغ. بل كان لها أسبابها ومقدماتها. ومن أهم ما أوصل الأمریكی إلى هذه المرحلة هو القدرة العسكریة التی تمتلكها بیونغ یانغ والتی لم تكن بیونغ یانغ حذرة فی إظهارها. بل على العكس عمدت إلى إظهار ما لدیها من أسلحة متطورة وصواریخ بالستیة عابرة للقارات ولم تتوانِ فی تنفیذ خامس تجربة نوویة خلال أیلول سبتامبر من العام الماضی.
هذه القدرة العسكریة المقرونة بتصمیم وقرار شجاع وواضح فی المواجهة أرعد فرائص أمریكا. خاصة أن الخبراء العسكریون الأمریكیون أنفسهم باتوا مطمئنین إلى أن بیونغ یانغ قادرة على ضرب العمق الأمریكی ولم یعد الأمر مجرد تهدیدات كوریة شمالیة غیر واقعیة.
الكلام الذی نطق به تیلرسون له أبعاده المهمة أیضا على صعید آخر، وهو الصعید السیاسی والعقوباتی. فأمریكا اعتمدت خلال الأعوام الأخیرة بما فیها الأشهر الستة الأخیرة من حكم دونالد ترامب سیاسة الضغط السیاسی والاقتصادی على بیونغ یانغ. سیاسیا عبر الصین واقتصادیا عبر فرض المزید من العقوبات كان آخرها منذ أیام. هذا التصریح یُسقط فی الواقع مفاعیل هذه العقوبات قبل سریانها كما أنه یُجهض الضغوط السیاسیة التی مورست على الصین من أجل كبح جماح بیونغ یانغ. خاصة أن هذا الكلام صادر عن شخصیة تتربع على رأس الدبلوماسیة الأمریكیة.
وفیما یخص الصین أكد تیلرسون فی تصریحه البارحة على اعتماد أمریكا على الجهود الصینیة. داعیا الصین لاستخدام نفوذها لدى كوریا الشمالیة من أجل تأمین ظروف مناسبة لحوار مثمر مستقبلا. هذا الكلام أیضا یؤكد تراجع لهجة التهدید والوعید التی اعتمدها دونالد ترامب اتجاه الصین حیث صرح فی وقت سابق أن أمریكا مستعدة لخوض حرب مدمرة من جانب واحد ضد كوریا الشمالیة فی حال لم تتعاون بكین.
الحدیث فی هذا الوقت عن مفاوضات وحوار أمریكی مع كوریا الشمالیة یشكل وصمة عار لأمریكا التی لطالما ادعت أنها لا تفاوض دول الشر. ویؤكد أن لا مبادئ تحكم السیاسة الأمریكیة بل إن المصالح والمخاوف هی التی ترسم خطوط حركتها.
تمكنت بالفعل بیونغ یانغ من إیجاع الأمریكی وجعله یكف عن سیاسة التهدید والوعید وجرته لطلب الحوار الذی لیس من المعلوم إن كانت بیونغ یانغ نفسها حاضرة له. فهی الیوم فی موقع القوة أمام الأمریكی الذی استخدم كل ما لدیه من أوراق ضغط ولم یحصل على نتیجة. واللافت أیضا أن القیادة فی بیونغ وعلى رأسها الزعیم الكوری الشمالی كیم جونغ اون لم یصدر منهم أی كلمة تشیر إلى تهدءة طیلة الفترة الماضیة. على عكس الأمریكیین الذین أرسلوا فی أكثر من موقف رسائل تهدءة وبحث عن سبیل خروج من الأزمة.
خطاب تیلرسون الأخیر لن تُحصر مفاعیله ضمن شبه الجزیرة الكوریة بل من المؤكد أن تطورات الأزمة الأمریكیة الكوریة الشمالیة سینعكس أیضا على النظام الدولی الحاكم، حیث أن هناك بوادر تململ فی معسكر الدول الحلیفة لأمریكا من أجل الخروج من تحت سلطتها ووصایتها. وهذا الأمر مشهود الیوم بشكل واضح بالنسبة لأوروبا حیث أن جمر الخلاف مع أمریكا یتأجج تحت رماد القارة العجوز. والرفض الأوروبی للعقوبات الأمریكیة أحادیة الجانب على روسیا هو أحد بوادر نهایة الهیمنة الأمریكیة وبدایة عصر جدید من تعدد الأقطاب.
LINK: https://www.ansarpress.com/english/7831
TAGS: