كانت عملية طوفان الأقصى بمثابة اختبار عملي للعديد من المُثُل العالمية، كما لعبت خلال هذه الفترة مختلف حكومات العالم دورها البارز في دعم أو إدانة الجرائم الصهيونية.
وتعتبر الولايات المتحدة أكبر داعم للهجمات الصهيونية، وهي الحكومة التي وضعت حجر الأساس لـ"إسرائيل" في كل القطاعات العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية والاقتصادية، وفي أقل من عام على الانتخابات الرئاسية، أنشأت رابطاً قوياً بين اللوبيات الصهيونية الأمريكية وحكومة أمريكا الديمقراطية بقيادة "جو بايدن"، وقد عزز ذلك آمال بايدن في إعادة انتخابه.
وبعيداً عن دور الصين والهند وروسيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، من المهم جداً دراسة أداء حكومات العالم العربي، ومن بين الدول العربية، دخلت دول مثل اليمن بشكل مباشر في الصراع دعماً لغزة، بل إنها أعربت عن أسفها لعدم وجود حدود برية مع الأراضي الإسرائيلية، وتقليل نطاق صراعاتها مع هذا الکيان.
ومن ناحية أخرى، فإن بعض الحكومات، بما في ذلك البحرين، لم تدن قط جرائم الصهاينة فحسب، بل انضمت أيضًا إلى التحالف البحري الأمريكي ضد اليمن للدفاع عن "إسرائيل"!
ومن أهم الدول التي لا يمكن تجاهل دورها هي مصر، وهي دولة لها حدود برية مع قطاع غزة المحاصر، ومن هذا المنطلق، وبالنظر إلى وجود حدود مشترکة مع الأراضي المحتلة، فإن قوة الدور المحتملة لمصر في مساعدة غزة ومواجهة تل أبيب هي فريدة من نوعها، ولكن ما هو الأداء الذي سجلته مصر خلال هذه الفترة؟.
الخوف من إرسال مساعدات إنسانية إلى غزة
في هذه الفترة أجرت الحكومة المصرية انتخاباتها الرئاسية، وكانت نتيجتها الفوز الثالث على التوالي لعبد الفتاح السيسي.
تقليدياً، ظلت مصر تشكل في ذهنها دائماً فكرةً خاصةً عن قوة الکيان الصهيوني منذ إبرام معاهدة كامب ديفيد، ويرتبط تكوين هذه العقلية بالطبع بالهزائم المتتالية لـ "جمال عبد الناصر" و"أنور السادات" في معارك عسكرية مع الکيان.
السيسي، الذي يلعب دوراً مهماً في تحديد وتنفيذ السياسة الخارجية كرئيس لمصر، هو رجل عسكري وزميل سابق لعبد الفتاح البرهان (رئيس المجلس الحاكم في السودان) في الكلية العسكرية، ويتلقى الجيش المصري مليار دولار من الحكومة الفيدرالية الأمريكية بشكل مباشر كل عام منذ عقود، وفي مصر من الشائع القول إن واشنطن تدفع رواتب جنود الجيش المصري.
وبالنظر إلى هذه الأمور والعديد من القضايا الأخرى غير المعلنة المتعلقة بعلاقات القاهرة مع أمريكا والکيان الإسرائيلي، فمن السهل فهم سلوك هذا البلد اليوم.
اليوم، لا ترفض الحكومة المصرية تسليم المعدات العسكرية والمساعدات إلى غزة فحسب، بل ترفض أيضًا إرسال الأدوية والغذاء ومياه الشرب، والحقيقة أن عبد الفتاح السيسي لا يملك الشجاعة الكافية لفتح معبر رفح، لإرسال الدواء إلى الأطفال الفلسطينيين، ولهذا السبب، يعتبر العديد من الخبراء أن الحكومة المصرية شريكة في جرائم الاحتلال في هذه الحرب.
ولم تكتف مصر بعدم إدانة الأعمال الإجرامية للصهاينة، ولكنها لم تقدم أيضًا أي مساعدة ذات مغزی للفلسطينيين في مسرح العمليات، و في العلاقات الدولية، إن إرسال المساعدات الإنسانية (بما في ذلك الغذاء والدواء والمياه)، له المعنى والتكلفة السياسية الأدنی، ومع ذلك، فإن الحكومة المصرية لا تملك حتى الشجاعة للقيام بذلك، دون الحصول على إذن من الإسرائيليين.
إن معبر رفح في الجزء الجنوبي من غزة على حدود شبه جزيرة سيناء المصرية، هو الممر الوحيد لغزة من مصر، ويعمل كحلقة وصل حيوية بين غزة وبقية العالم، وقد تجاهلت القاهرة واجباتها الإنسانية والأخلاقية، وتجاهلت بالطبع مُثُل الإسلاموية والقومية العربية لعقود من الزمن، ومع ذلك، فمن الممكن أن نرى أيضًا بعض الآثار الإيجابية للسلوك المصري.
لقد صوتت مصر لمصلحة كل قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة غير الملزمة الداعمة لوقف إطلاق النار؛ وفي مؤتمرات التعاون الإسلامي، اتخذت مواقف أكثر حسماً من كثير من الحكومات العربية الأخرى.
وبطبيعة الحال، على الرغم من تكبدها خسائر مباشرة، فقد رفضت مصر مواجهة هجمات أنصار الله في اليمن ضد السفن الإسرائيلية (أو المتجهة إلى الکيان الإسرائيلي) في البحر الأحمر.
کما أعلنت هذه الدولة بوضوح، وفي الساعات الأولى من سماع الهمسات عن تشكيل تحالف بحري بقيادة الولايات المتحدة ضد اليمن، عدم الانضمام إلى هذا التحالف، كما وصفت المخططات الإسرائيلية الأمريكية لتوطين لاجئي غزة في أرضها (صحراء سيناء) بأنها غير مقبولة، ولم تتعاون مع حكومة تل أبيب بهذا الشأن.
وإذا کان من الممکن اعتبار الحالتين الأوليين (التصويت في الأمم المتحدة، واتخاذ المواقف في مؤتمرات التعاون الإسلامي) شكليتين ودون أي تأثير مهم، فيمكن اعتبار اتخاذ الإجراءين الآخرين (عدم الانضمام إلى التحالف البحري الأمريكي، وعدم قبول خطة التسوية للاجئين الفلسطينيين)، بأنه يكون لهما تأثير موضوعي وعملي، وتأثيرات كبيرة على العلاقات والمعادلات المتعلقة بالحرب.
ولكن لماذا لا تعتبر الأصوات في الجمعية العامة للأمم المتحدة ذات أهمية كبيرة؟ في هذا الصدد، ينبغي القول إن قرارات الجمعية العامة ليست ملزمةً، وليس لها سوى ثقل سياسي.
كما أنه عندما يصوت أعضاء الدول الأعضاء لمصلحة خطة وقف إطلاق النار، فإن تصويت القاهرة الإيجابي يعتبر نوعاً من المسايرة مع الاتجاه العالمي، وسيفرض أقل الضغوط السياسية والدولية على هذه الدولة.
ولذلك، فإن تصويت القاهرة على خطط وقف إطلاق النار في الجمعية العامة، لا يمكن اعتباره عملاً أيديولوجياً أو مبنياً على مشاعر إسلامية أو عربية، بل إن هذا الإجراء يتم تحديده في إطار المصالح الوطنية لمصر فحسب.
ما الذي تشير إليه مواقف القاهرة في المؤتمرات؟
تتعرض مصر، باعتبارها الدولة التي يقع فيها معبر رفح الحيوي، لضغوط غير مسبوقة من الرأي العام العالمي وخاصةً العربي، من أجل ممارسة سيادتها المستقلة عن الکيان الصهيوني.
بالنسبة لمصر، فإن أفضل طريقة للتخلص من هذا الحجم من ضغوط الرأي العام، هي الإدلاء بتصريحات ثورية وحاسمة (مثل ما يفعله رجب طيب أردوغان في تركيا)، دون أن تكون فعالةً، وهذا يعني الحفاظ على الحد الأقصى من العلاقات مع الکيان الصهيوني، أثناء القيام بأعمال شعبوية لخداع وجذب الرأي العام، ولكن لماذا ترفض مصر قبول المهاجرين من غزة وتعارض خطة إعادة توطينهم القسري؟.
للوهلة الأولى، يبدو هذا الإجراء بمثابة عمل شجاع ضد المخططات الخادعة للجبهة الغربية-العبرية، ولكن إذا نظرنا إلى الموضوع عن كثب، فحتى هذه القضية يمكن تعريفها في إطار المصالح الوطنية لمصر.
فمن المؤكد أن قبول ولو بنسبة واحد بالمئة من سكان غرة البالغ عددهم 2.6 مليون نسمة، سيتسبب في أزمات اللاجئين في مصر، وهذه الحكومة المفلسة، التي تعيش على القمح الروسي المجاني، لن تتمكن من تغطية نفقات هؤلاء اللاجئين.
ومن ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى الدول التي تستضيف بعض اللاجئين الفلسطينيين، نجد أن المخيمات المقامة للاجئين، أصبحت مصدراً لانعدام الأمن والاستقرار للحكومة المضيفة، ولذلك، يمكن القول على وجه اليقين إن هذا التصرف من جانب مصر، لم يكن نوعاً من السلوك الإنساني والمثالي، ولم يتخذ إلا من أجل ضمان المصالح الوطنية.
فهل يمكن اعتبار معارضة التحالف البحري الأمريكي، متوافقةً مع سياسة تأمين المصالح الوطنية المصرية؟ الجواب نعم، يمکن القول بشکل مؤکد إن قناة السويس هي أهم ممر مائي في العالم، حيث يقع هذا الطريق البحري في مصر، ويوفر العبور البحري فيه فائدةً كبيرةً للاقتصاد المصري كل عام.
وبالنسبة للحكومة المصرية فإن أي تهديد ضد هذه القناة، يعني خسارة مصلحة وطنية حيوية (أو ربما حتى مصلحة وطنية وجودية)، ويمكن أن يكون هذا التهديد هو إيقاف أو غرق سفينة في القناة، أو حدوث صراع عسكري واسع النطاق.
لأن خلق أي توتر عسكري في هذه القناة، سوف يبعد الشركات الخاصة والشركات الشرقية والغربية، ويضع أمامها طرقاً بديلةً (مثل رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا)، لذلك، فإن المصريين يعتبرون التوتر الذي أحدثته أنصار الله في اليمن، كما يدعي اليمنيون أنفسهم، موجه فقط نحو الکيان الإسرائيلي، وهم يبذلون قصارى جهدهم حتى لا يفقدوا هذه المصلحة الوطنية الحيوية.
وتعتبر القاهرة التحالف البحري الأمريكي بمثابة آلة حرب، وستكون خسارتها الأكبر من نصيب مصر، ويتعزز هذا الاعتقاد والشعور بعدم الثقة في أمريكا، وخاصةً مع ظهور الممر المزعوم الجديد للهند والإمارات والسعودية والأردن والکيان الإسرائيلي واليونان؛ الممر الذي تقترحه الولايات المتحدة ويتجاوز مباشرةً قناة السويس والمصالح الحيوية لمصر.
ولذلك، يرى المصريون أن من اقترح الممر الهندي (أي واشنطن)، لم يول أهميةً لقناة السويس وتوفير المصالح الوطنية الحيوية لمصر، وهکذا، لن تتصرف أمريكا بحذر في اتخاذ القرارات المتعلقة بالرد على هجمات أنصار الله في اليمن، وسيكون وقوع حرب واسعة النطاق في البحر الأحمر وإغلاق قناة السويس أمراً ممكناً.
وبالتالي، فإن قرار مصر بمعارضة الانضمام إلى التحالف البحري الأمريكي ضد القوات اليمنية القوية، كان أيضًا قرارًا حكيمًا يستند إلى المصالح الوطنية، وليس هناك أي شعور بالتعاطف مع شعب غزة المظلوم، ولا أي جهد لمواجهة الکيان الصهيوني.
وبطبيعة الحال، تجدر الإشارة أيضًا إلى أن انعدام الأمن لدى جيران مصر، يؤثر بشكل كبير على الاقتصاد والسياحة في هذا البلد، ومن ناحية أخرى، فيما يتعلق بالأحداث في فلسطين، فإن تقاعس هذا البلد يثير اشمئزاز المجتمعات المختلفة، الأمر الذي سيجعل مصر تسعى إلى تحقيق وقف مؤقت ودائم لإطلاق النار، لكي تتمكن من تقديم وجهها بين مختلف الأمم كدولة محبة للسلام وداعمة لفلسطين، وتسوق سياسات الکيان في مفاوضات وقف إطلاق النار.
الاستنتاج
اختبار طوفان الأقصى كان له رابحون وخاسرون، أولئك الذين ضحوا بإنسانيتهم وحقوقهم الإنسانية ومطالبتهم المستمرة منذ عقود بخلق عالم صحي بعيد عن العنف، وخاصةً للأطفال، تلبيةً لرغبات الکيان الإسرائيلي، خسروا في هذا الاختبار.
ويمكن اعتبار مصر بأنها واحدة من الدول الخاسرة؛ لأنها لم تقدم أي دعم موضوعي وعملي لإرادة الشعب الفلسطيني، بل اكتفت بالكلمات والمواقف الجميلة في بياناتها، لقد أثبتت مصر، مثل تركيا تماماً، أنها دولة شجاعة وقوية في الكلمات والبيانات، ولكنها سلبية وجبانة في الممارسة.
URL تعقيب: https://www.ansarpress.com/arabic/29296
الكلمات: